وليد خالد الغول
ولد الرفيق وليد خالد سالم الغول في مخيم الشاطئ للاجئين بتاريخ 20/1/1956 ، أي حين كان عمر النكبة ثماني سنوات، وقبل أن تدرج قدماه أرض المخيم، كان العدوان الثلاثي الغاشم، ومع رصاصات القتل والمجازر الوحشية التي ارتكبتها قوى البغي والعدوان، كان شهيدنا يرضع اللبن الفلسطيني المخصب بعشق الوطن وعنفوان المعركة.
عاش طفولته مثل كل أطفال المخيم، تعلم الحياة كما تعلم الكلام، من خلال حكايات الجدات، تعلم كلمة هربيا ويافا والمجدل وحيفا واللد وعكا وكل المدن والقرى الفلسطينية، قبل أن يتعلم التعداد، حفظ تضاريس الوطن، وحلم بمواسم الحصاد وهو مازال طفل في المخيم، حيث يتكثف الوطن والحلم الأمل، تحت الأسقف القرميدية، وتشرب حكايا البطولة ومعارك الفداء، على ألسنة أبطالها الحقيقيون من فدائيي الشهيد مصطفى حافظ، وباعتبار المخيمات حاضنة للعمل السياسي، ترعرع شهيدنا ومنذ نعومة أظافره على الفكر القومي الوحدوي والتحرري.
إلتحق شهيدنا بمدارس الوكالة، وكان متفوقاً في دروسه ونابغة بين أترابه، ومحل احترام من مدرسيه، وقبل أن يتم دراسته الابتدائية، كانت هزيمة حزيران، وكان ميلاد المقاومة المسلحة وتمكن شهيدنا وبرغم صغر سنه من نيل إعجاب الفدائيين الأوائل لذكائه وفطنته وسرعة بديهته، وقبل هذا وذاك لجرأته النادرة، حيث كان محيطه العائلي والأسري، يمثل معقلا من معاقل الانطلاقة المسلحة، وقدمت في مسيرة الثورة الفلسطينية عدداً من الشهداء وعشرات الأسرى والجرحى.
حاز الرفيق الشهيد وليد على شرف عضوية الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قبل أن يدخل عامه الخامس عشر، ليجوب مبكراً حقل الرجولة والبطولة، مقاتلاً صلباً وعنيداً في المجموعات الجيفارية إبان قيادة الشهيد البطل محمد الأسود "جيفارا غزة " التي أقضت مضاجع الصهاينة المحتلين.
اعتقل في عام 1972، وتعرض لأبشع أساليب التعذيب، وكان نداً حقيقياً، ليسطر أولى صفحاته في قاموس مقارعة الجلاد، لتترسخ في خلايا الجسد، كما في تلافيف الدماغ، مقولة التواصل والعطاء، وحقيقة انتصار الإرادة المقاتلة على وحشية دولة البطش والعدوان، وبعد قضاء عشرة أشهر في السجن، تحرر من القيد ليواصل مسيرته الكفاحية.
إبان حرب اكتوبر عام 1973 اعتقل شهيدنا مرة أخرى لمدة ثمانية عشر يوماً، هزأ خلالها بالسوط وبالجلاد، وانتصر بإرادة الصمود، وعاد شامخاً لحضن أسرته ولمجموعته المقاتلة، ليواصل درب الكفاح.
في يناير 1975، اعتقل شهيدنا ضمن ضربة طالت العديد من كوادر ومقاتلي الجبهة، ليحقق مرة أخرى اسطورة في الصمود والتحدي الباسل وحكم ثلاثة عشر عاماً، أمضاها في باستيلات الاحتلال .. برغم صغر سنه داخل السجن، حمل أبو خالد السمات القيادية، وكان من عايشه من المعتقلين والذين يكبرونه سناً لا يملك إلا أن يرى في هذا الشبل الفذ رجلاً قيادياً من طراز فريد.
وفي تلك المرحلة والتي أخذت فيها الحركة الوطنية الأسيرة زمام المبادرة في مقارعة الاحتلال وتحويل قلاع الأسر من أكياس حجرية تستهدف قتل الإنسان والانتماء إلى أكاديميات ومدارس ثورية، ترفد الوطن بمئات بل آلاف الأبطال، كان لشهيدنا البطل دوراً ريادياً على صعيد التخطيط الدقيق والتنفيذ الأدق، مما كان يدفع إدارة القمع إلى عزله من سجن إلى أخر، وحيثما كان يرحل، كان يمثل قلقاً دائماً للصهاينة، وسنديانة شامخة للأسرى بغض النظر عن الانتماء فأبو خالد أدرك وربما قبل غيره، أن الوحدة الوطنية هي الشرط الرئيسي والأساسي لانتصار الإرادة الفلسطينية على العنجهية الصهيونية، لذلك لم يكن غريباً أن يختنق الأسرى بالبكاء، كلما أُبعد أبو خالد من سجنهم إلى سجن آخر، وكان المستقبلين يستبشرون بقدوم القائد الوحدوي، وبغض النظر عن إنتمائهم لأنه كان فلسطينياً حتى النخاع.
حارب العصبية البغيضة، وضيق الأفق، وكان مبشراً للوحدة الوطنية والتعاضد والتكاثف، رسالته في كل مكان وزمان تجسدت في مقولته الخالدة، أيها الإخوة أيها الرفاق، إن تعارضاتنا وخلافاتنا، يجب ألا تحيد أبصارنا وعقولنا عن الحلقة المركزية المتمثلة بصراعنا مع العدو المركزي المتربص بنا من كل الجهات، لنتمترس في خندق الوحدة الوطنية والتي لا محيد لنا عنها، فلنرهب عدونا بوحدتنا، لنحاربه مجتمعين، حتى لا تذهب ريحنا، وحتى لا تلعننا الأجيال القادمة.
تحرر أبو خالد من الأسر في يناير 1988، مع بدايات الانتفاضة المجيدة، ومنذ لحظة تحرره الأولى، سارع لقيادة أوضاع الجبهة في القطاع، لم يعط نفسه حق استراحة المقاتل، لم يعط نفسه حق التمتع ولو للحظة بحريته الشخصية، فأعطى جسده وروحه وعقله وقلبه للعمل الثوري، كان محترفاً حقيقياً، وثورياً لا تلين له قناة، قائداً ميدانياً يجوب قطاع غزة من شماله لجنوبه، ومن شرقه لغربه، فكان نموذجاً حياً للإقدام والجرأة والعطاء والتضحية وكل ما في قاموس المحترفين الثوريين من معاني الرجولة والإنسانية، لم يتهرب يوماً من مقابلة شبل أو نسر أو عضو لم يتحرج من لقاء صقر أو فهد أو قسامي، كان حضنا دافئاً ورسول طمأنينة لعجائز المخيم كما لأطفاله وشبابه وشيوخه.
أدرك الاحتلال خطورة هذا القائد الفذ، اعتقلته قوات الاحتلال المرة تلو الأخرى، وتعرض لأبشع أساليب التحقيق وحشية، وكان دائماً يهزأ من الجلاد وعصاه، مجسداً وعن كامل الجدارة مقولة الاعتراف خيانة، وحكمة إذا كان لابد من التضحية فلتكن التضحية بالحياة لا بالشرف، جدد له الاعتقال الإداري مرات عديدة، لكن هذا لم ينل من عزيمته، واستمر يقرع الخزان، برغم السجن والسجان.
أدرك رفيقنا الشهيد القائد أن موقعه القيادي وسماته القيادية، تعطيه حق العطاء، حق الفداء، حق التضحية، وعضويته في المؤتمر الخامس للجبهة الشعبية، وانتخابه عضواً في اللجنة المركزية العامة للجبهة كانت حافزاً لبذل الدم والعرق والجهد، ليحقق بذلك أيضاً مقولة المرتبة تكليفاً لا تشريفاً، والقيادة أن تكون دائماً في المقدمة، في المواجهة، في الخندق الأول، وأن تحمل روحك على راحتيك.
سيذكر المخيم كما سيذكر الساحل الغزي، قمر الوطن، الحضن الدافئ، البسمة المطمئنة، الأمل الذي يشع الراحة والسكينة، أبا خالد الإنسان، الرفيق، الأخ، الصديق، الإبن البار لوالديه، الزوج الوفي لزوجته، الأب الحنون، القلب الذي ينبض بحب الجميع، أبا خالد الذي لم يعجز يوماً عن رفع الظلم عن المظلوم، وإحقاق الحق، أبا خالد الإنسان والقائد الإنسان، والذي أدرك أن الكلمة قد تكون طلقة مثلما قد تكون بلسمة.
استشهد الرفيق القائد وليد خالد سالم الغول عضو اللجنة المركزية العامة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بتاريخ 14/12/1999، بعد حياة حافلة بالعطاء والتضحية والإيثار، استشهد بعد صراع مع المرض أورثته إياه سجون الاحتلال الفاشي.